بقلم : البَرَّاق شادي عبد السلام
تواجه الدول الوطنية اليوم تحديًا معقدًا يتمثل في التعامل مع التحركات الجماهيرية التي تهدف للتعبير عن مطالب اقتصادية واجتماعية، وهي تحركات تبرز إشكالية التوفيق بين الحق في الاحتجاج والحاجة الماسة إلى صون الاستقرار العام وحماية البنية المؤسسية للدولة من أي اهتزازات قد تستغلها أطراف تسعى للإضرار بالتماسك الداخلي.حيث تُعدّ هذه الاحتجاجات ساحة مثالية لبناء بنية قتال غير تقليدية للجيل الرابع للحروب ، حيث تُستغل المظالم المشروعة لتقويض الشرعية الداخلية للدولة وإحداث الفوضى المنظمة، مما يخدم هدف تفكيك الإرادة الشعبية بالحقاظ على مقومات التماسك وإضعاف الثقة بالمؤسسات الإستراتيجية. فهذا التفاعل بين مشروعية المطالب الشعبية وضرورة الحفاظ على النظام العام يضع على عاتق الحكومة و السلطات التنفيذية و الأجهزة الأمنية مسؤولية كبرى لإدارة الأزمة بأسلوب يوازن بين الاستجابة الفعالة للمشكلات القائمة وضرورة ضبط المسارات الاحتجاجية لمنع تحولها إلى أداة لتفكيك الثقة في المؤسسات أو إحداث فوضى منظمة.
و عليه فتناول هذه الإحتجاجات من وجهة نظري يمر عبر ستة مسارات متداخلة :
▪️أولا :
من الضروري التمييز بين الحقوق الفردية و المطالب الشرعية التي يؤطرها الدستور و مبدأ الحفاظ على المنظومة الاستقرارية للدولة و هنا نقصد بها الإطار المتكامل من المؤسسات والشرعية والسياسات التي تضمن بقاء و إستقرار و استمرارية النظام السياسي. وهي محصلة للتوازن بين الفعالية الحكومية في تلبية المطالب والقدرة الأمنية على حفظ النظام ومنع تآكل الشرعية والثقة الداخلية ، ورغم أن التعبير عن المطالب الاجتماعية و الإقتصادية يُعد حقاً مكفولاً بنص دستوري واضح ، إلا أن هذه الاحتجاجات الجماهيرية غير المؤطرة تمثل اختراقاً لمنظومة الوساطة المؤسسية التقليدية، وتخاطر بتحويل مطالب مشروعة إلى مصدر لـ الاستقطاب المجتمعي والتوتر الأمني ، فتوسع رقعة هذه الاحتجاجات يهدد بإحداث تآكل منهجي لشرعية الدولة القائمة، وهو هدف رئيسي ضمن تكتيكات حرب هدم الإرادة السياسية التي تميز الجيل الرابع للحروب ، حيث تستغل الجهات المتربصة حالة اليأس الاجتماعي لتقويض الثقة في المؤسسات و إحداث إصطدام عنيف بين المؤسسات الإستراتيجية للدولة و حاضنتها الإستراتيجية المتمثلة في الجماهير الشعبية .
و هنا فالموقف السياسي الرصين يرى أن المطالب يجب أن تُدار ضمن آليات الحوار المؤسسي المُنظَّم، بعيداً عن الشارع الذي يُنشئ فراغاً سياسياً قابلاً لـ التوظيف الخارجي أو الداخلي المُدمّر. فالخروج عن هذا الإطار يُدخل المجتمع في دائرة الفوضى المُنظَّمة، ويُقدم للخصوم ( داخليا و خارجيا ) فرصة لـ تضخيم الفشل الحكومي والعمل على تحقيق هدفهم الاستراتيجي المتمثل في إرباك الإرادة الوطنية عبر التلاعب بـ السرديات الإعلامية المُصاحبة.
▪️ثانيا :
يجب النظر إلى التدخل الأمني من زاوية حفظ النظام العام وضمان استمرارية الدولة. فالتدخل لـ تفريق التجمعات غير المُرخَّصة أو التي تُهدد بـ التخريب المادي والاجتماعي للممتلكات و تهدد السكينة و الأمن العمومي هو تطبيق لـ مبدأ السيادة وضرورة للحفاظ على النسيج المجتمعي من التمزق. و بالتالي فوصف التدخل بـ “العنيف” أو “غير القانوني” غالباً كما رأينا في سيناريوهات سابقة ما يكون جزءاً من حملات الحرب الذهنية والبروباغندا و عملية تصفية الحسابات التي تهدف إلى نزع الشرعية عن مؤسسات الدولة الإستراتيجية وإثارة مشاعر الاستياء المُمَنهج.
و بالتالي فإعتماد الدولة على المقاربة الأمنية الاستباقية هو إجراء وقائي مشروع للحيلولة دون تفاقم الأوضاع إلى سيناريو يهدف إلى إحداث شلل الإرادة السياسية و سيادة القرار السياسي للدولة ، الذي يعتبر خط الدفاع الأول لمنع تحوّل الاحتجاجات إلى بيئة خصبة لتنزيل مخططات الجهات الفاعلة غير الحكومية العنيفة المتربصة بالوطن ، ففي سياق الصراع اللامتماثل، يصبح التدخل الحاسم والمحترف ضرورياً لـ حماية المنظومة الأمنية من أي محاولة لـ إختراق مؤسسات الدولة أو إحداث إرباك إستراتيجي يُهدد الأمن القومي.
▪️ثالثا :
على الرغم من الجهود الحكومية المبذولة في صياغة البرامج الإصلاحية على جميع المستويات ، فإن ظهور هذه الإحتجاجات الشبابية التي في ظاهرها عفوية يكشف عن قصور خطير في جودة و فعالية آليات التواصل الاستراتيجي المعتمدة من طرف مختلف الفرقاء الحكوميين وليس بالضرورة في غياب الحوار بشكل مطلق. فقد أثبتت هذه الفئة الشبابية أنها تعمل بـ لامركزية الصراع وتتواصل عبر منصات التواصل الاجتماعي خارج الأطر التقليدية، مما يعقّد مهمة أي طرف حكومي في تأسيس حوار مؤسسي فعال وموجَّه مع هذه الفعاليات ، و بالتالي فإن إصرار هذا الجيل على التعبير خارج القنوات الدستورية المتاحة يمثل بحد ذاته تحدياً وجوديا للفاعل السياسي الذي يقدم نفسه كأحد أدوات تأطير المجتمع و الشباب ، و بالتالي على الفاعل الحكومي في ماتبقى من عمرها تطوير آليات القوة الذكية التي تستجيب للمطالب المشروعة مع ضبط مسار الحوار ضمن إطار يضمن عدم استغلاله كأداة لـ التعبئة الثقافية المناهضة للنظام العام. فالإخفاق في إدارة التواصل يُعد ثغرة خطيرة، قد يستغلها المتربصون لـ تشويه السردية الرسمية للدولة وزيادة حدة الاستقطاب داخل المجتمع ، و بالتالي فتحميل المسؤولية السياسية للأصوات المستفزة التي تقتات من المال العام و التي هددت السلم الإجتماعي للوطن و الشعور العام بعبارات ” الذباب و مزابل التواصل الإجتماعي و باردين الكتاف ” و غيرها من التعبيرات الغير السياسية و الإيحاءات المسيئة للتراث النضالي و السياسي و الفكري المغربي أصبح اليوم ضرورة حتمية.
▪️رابعا :
إن تبسيط هذه الاحتجاجات بوصفها “عفوية” و بدون ” أجندة سياسية ” يُمثل خطأً شنيعا في التحليل الاستراتيجي يُعادل إنكار الوجود الفعلي لـ الأجندات الخارجية. ففي عصر الجيل الرابع للحروب والصراع عبر الوطني، لا تحتاج الجهات الفاعلة العنيفة إلى تنظيم مباشر، بل تكتفي بـ توظيف العفوية واستغلال التراكم السلبي للمطالب الاجتماعية. فالطابع العفوي لهذه المظاهرات يخدم كغطاء مثالي لعمليات التخريب المنهجي والإضرار بـ البنية التحتية الرمزية للدولة.
و بالتالي يجب التعامل مع هذه التحركات بفرضية وجود الارتباط غير المباشر بـ التمويل المشبوه أو التوجيه عن بعد، خوفاً من أن تتحول هذه التجمعات إلى بؤرة لـ إحتراق الموارد الوطنية أو أداة لتحقيق أهداف إستراتيجية غير معلنة تخدم مصالح دول أو كيانات و أجهزة مخابرات تسعى لـ زعزعة الأمن الداخلي للمملكة و الاستقرار الإقليمي. و عليه فمقارنة هذه الإحتحاجات بـ “الخريف العربي” و تداعياته المؤسفة ليست مجرد تذكير، بل هي تحذير استراتيجي من خطورة السماح لـ أزمة مطالب قطاعية بالتحول إلى عملية ممنهجة لتفكيك للدولة من الداخل.
▪️خامسا :
يُعد استغلال المحتوى البصري تكتيكاً محورياً ضمن الحرب الذهنية و البروباغندا البصرية التي تميز الجيل الرابع للحروب ، حيث يتم تحويل الصور ومقاطع الفيديو إلى سلاح إستراتيجي لا يهدف فقط إلى نقل الواقع بل إلى صناعة إدراك مُهَيَّج للواقع، عبر عملية تشويه منهجي للسردية الرسمية. يتم ذلك من خلال إقتناص اللحظات الدرامية للظلم أو القمع أو المعاناة الفردية، ثم نزعها من سياقها لإعادة تركيبها ضمن سردية مُحرّضة تُعزز الاستقطاب المجتمعي و الإيديولوجي ، حيث أن الهدف هنا ليس إثبات الحقيقة أو نقل الوقائع ، بل إحداث إختراق حاسم للمجال المعرفي للجمهور، لتهييج الوعي العاطفي وتوجيه الغضب بشكل فعّال نحو مؤسسات الدولة عبر إظهارها في مظهر العاجز السلطوي أو القمعي الدكتاتوري .
و بالتالي فلإستراتيجية الدفاعية المثلى لمواجهة تكتيكات الدعاية البصرية و الإغتيال العقلي و حرب السردية تكمن في بناء المناعة الذهنية و الفكرية لدى الجماهير، بدلاً من مجرد تفنيد الادعاءات الفردية و الرد على الأخبار الزائفة و الأراجيف الكاذبة يتم ذلك عبر تطبيق مفهوم التمنيع المعرفي، الذي يقضي بتعريض المتلقي مسبقاً لـ ‘جرعات إيضاحية’ تكشف عن أساليب التلاعب المستخدمة، مثل كيفية نزع الصور من سياقها أو توظيفها للتأثير الانفعالي. هذا الإجراء يمنح الجمهور قدرة تحليلية على فك شفرة الرسالة المحرّضة قبل أن تحدث تأثيرها العاطفي. بالتوازي، يتوجب على المؤسسات الإعلامية تبني إستراتيجية الرواية المضادة الشفافة، التي لا تكتفي بتقديم الوقائع الكاملة، بل تسلط الضوء مباشرة على آلية التشويه ذاتها، مما يقوض فعالية الدعاية البصرية ومصداقيتها بشكل جذري .
▪️سادسا :
إن الإصرار على دعوة جيل Z للعودة إلى الأطر التقليدية (كالأحزاب والنقابات و الجمعيات) التي أثبتت فشلها في استيعابهم، يُعد قصوراً في التفكير الاستراتيجي يُفاقم الأزمة أكثر. فالمشكلة ليست في رفض الجيل لـ “قنوات الحوار الدستورية” فحسب، بل في عجز الإطار المؤسسي عن التكيف مع طبيعته اللامركزية والرقمية. و هنا علينا تجاوز مجرد انتقاد الاحتجاج في الشارع إلى إنشاء آليات وساطة جديدة ومبتكرة تمنح هذا الجيل المتميز عنا شكلا و مضمونا شعوراً بالفاعلية والتمثيل.
يتطلب هذا التحول إطلاق منصات حوار رقمي رسمي وموثوق تديرها مؤسسات الحكامة، وتصميم وحدات “الاستماع السريع” ضمن الهيئات الحكومية لرصد وتحليل السرديات المتداولة على منصات التواصل (مثل ديسكورد – تليغرام – فايسبوك – انستغرام – تيك توك – بالتوك – إكس) وتحويل المطالب المشروعة إلى أجندة سياسية قابلة للتنفيذ. فتجسير الفجوة بين الدولة و جيل Z، ينطلق من إضفاء الطابع المؤسسي على المشاركة الشبابية غير الحزبية. حيث آن الآوان لإنشاء منصات للتشريع التشاركي تسمح بتقديم مقترحات تشريعية رسمية عبر الإنترنت، بحيث تُناقش المقترحات التي تحصد عدداً محدداً من التواقيع الرقمية بشكل إلزامي داخل اللجان البرلمانية أو على مستوى التدبير في الجماعات و المجالس الإقليمية و الجهوية مثلا ، مما يمنح هذا الجيل شعوراً بالفاعلية دون الانخراط الحزبي. و ذلك عبر الاعتراف بـالكيانات الشبابية غير المؤطرة أو العفوية، وتوفير إطار قانوني مرن يتيح لها أن تكون شريكاً فاعلاً وممثلاً في لجان الحوار الوطنية المؤقتة، بدلاً من إجبارها على الهيكلة التقليدية. حيث أن هذا التكيف لا يمثل تنازلاً، بل هو إجراء استراتيجي و وقائي لإحتواء طاقة الجيل Z الإحتجاجية ضمن إطار دستوري مرن، مما يسحب البساط من تحت الجهات التي تسعى لاستغلال هذا الفراغ لتغذية الفوضى المُنظَّمة.
تعليقات
0