أحداث الداخلة|أحداث دولية

«حزنٌ في قلبي» لهلال شومان: عندما تتجاوز الكتابة الحاجة إلى التمرّد

صدرت رواية «حزن في قلبي» للكاتب اللبناني هلال شومان عن مكتبة خان الجنوب في العاصمة الألمانية برلين، وهي من أوئل إصدارات المكتبة، التي تحاول خلق فسحة للثقافة والكتاب العربي في أوروبا. ما قد يدفع للتساؤل حول سبب اختيار الكاتب اللبناني، الذي سبق له نشر أربع روايات في دور نشر معروفة في العالم العربي، لهذه المكتبة التي ما تزال في بداية مسيرتها. والجواب سيدركه القارئ من الصفحات الأولى للرواية. ربما لا توجد دار نشر عربية قادرة على احتمال «المخاطرة» بطباعة رواية بهذه المواصفات.
الحديث عن «مخاطرة» في مجال النشر العربي لا يعني بالضرورة مواجهة احتمال الخسارة المادية، بسبب ابتعاد الكتاب عن معايير النجاح الجماهيري والتسويقي، لكونه نخبوياً أو تجريبياً مثلاً، فصناعة الكتاب في العالم العربي أصلاً ليست مشروعاً رابحاً، ولكن لأسباب تتعلق بالمحظورات العربية الكثيرة، التي قد تعرّض الناشر للمنع والحظر، وربما المحاكمة. في حالة «حزن في قلبي» من الصعب تصور إمكانية وصول عمل، بطله مثلي جنسياً يتحدث عن حياته بأريحية، إلى القرّاء العرب دون مشاكل كبيرة.
إلا أن اختزال الكتاب بقضية المثلية الجنسية ظالم جداً لما أراد الكاتب قوله والتعبير عنه، وربما كان هذا أحد الأسباب التي جعلته يبتعد عن النشر داخل العالم العربي، فإضافة إلى المشاكل الرقابية الكثيرة، التي قد يتعرض لها الكتاب، فمن المحتمل أن يتحوّل استقباله عربياً إلى جدال لا ينتهي عن المثلية وحرية التعبير عموماً، ما سيضيّع الغنى الكبير للنص، وجمالياته المتعددة، ولهذا بالتحديد يجب أن لا يبقى العمل بعيداً عن القرّاء في العالم العربي، فهو يستحق ما هو أكثر من سجنه بصيغة «النص الجريء».
يسرد شومان حكاية عن الذاكرة والهوية والاغتراب، تدور أحداثها بين برلين وبيروت، عبر نثر هادئ وأقرب للأساليب الكلاسيكية، وبلغة قريبة لليومي والعادي. لا يبدو أنه معني للغاية بـ«التمرد» الأدبي والأسلوبي، الذي طبع كثيراً من الأعمال الأدبية العربية قبيل الربيع العربي وبعده. ولا يسعى إلى «كسر التابوهات»، أو «خدش الحياء»، ومواجهة الخطاب السائد وثقافة المجتمع، بل يريد أن يقول ما عنده دون ادعاءات أيديولوجية أو أدبية أو سياسية كبيرة، رغم أن روايته تعالج كل المواضيع التي تعتبر إشكالية، وربما كان هذا من السمات الأكثر تميزاً لـ«حزن في قلبي»، التي تجعلها علامة على مرحلة جديدة في الكتابة العربية، تستحق كثيراً من الاهتمام.

ما بعد التمرّد

بطل الرواية مثلي جنسياً مقيم في برلين، من أصول لبنانية، تم تهريبه صغيراً إلى ألمانيا أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، وقرر العودة إلى مسقط رأسه، بالتزامن مع ما يعرف بانتفاضة 17 تشرين، ليحقق وصية والده بالتبني، بنثر رماد جثته في مواضع متعددة من البلد. يتبيّن أن الأب المتوفى كان مقاتلاً في الحرب اللبنانية، وربما متورطاً بكثير من الجرائم؛ وأن المواضع التي طلب نثر رماد جثته بها ليست اعتباطية، بل لها دلالات كبيرة في زمن الحرب، ربما كان من الأفضل عدم تذكّرها. لا يوجد ما هو أكثر من كل هذا لكتابة رواية إشكالية وجريئة وسياسية، ولكن مَن يتوقع هذه الأمور لن يجد في نص هلال شومان ضالته.
أسئلة الكاتب مختلفة نوعاً ما عن أسئلة التغيير، أو التعامل الاجتماعي العام مع الماضي والذاكرة، بل يمكن تكثيفها بسؤالين يطرحهما بطل الرواية نفسه: «ما الحب؟ وماذا أفعل بالرماد؟». سؤالان ذاتيان جداً، قد يطرحهما أي شخص على نفسه، أياً كانت أصوله وميوله الجنسية وماضيه. «الحب» هنا لا يرد بالمعنى الرومانسي المألوف وحسب، بل بمعنى التواصل مع الآخر؛ مغزى أن يكون أشخاص معيّنون قريبين أو بعيدين من الذات الفردية؛ كيف تُبنى العلاقات في عالم لا يسوده اليقين والاستقرار. أما «الرماد» فقد يكون رمزاً لما حمّلته لنا تجارب من سبقونا؛ الماضي الذي لم نختره، ولا يعود إلينا إلا بوصفه ذاكرة غير واضحة. «هل هي قصتنا أم قصة غيرنا؟» كما تتساءل الرواية.

تحوّل الرواية كل القضايا الكبرى التي تعالجها إلى شأن من شؤون الذات الفردية، وهذا ليس مستجدّاً في عالم الأدب، فكثير من الأعمال العالقة بالذاكرة أنسنت الأحداث العظمى، بربطها بانطباعات وأحاسيس الأفراد، ولكن تذويت ما هو خارجي وعام لدى شومان يتخذ أبعاداً أكثر كثافة.

في رحلة يوسف، بطل الرواية، من برلين إلى بيروت يلتقي كثيراً من الشخصيات، التي تحاول التعامل بطريقتها مع حبها ورمادها، من عشيقه الكردي آزو، الذي يحلم بـ«كردستان»، التي لا يعرفها، في نوادي برلين الليلية؛ مروراً بعمرو، الشاب السكندري الذي أنكرته عائلته بسبب مثليته؛ وصولاً لمي ابنة الوزير اللبناني الناقمة على والدها وتاريخه. قد تكون حكاية جيل كامل محاصر برماد الماضي، تنتهي بلقاء جورج كرم المقاتل اللبناني السابق، ورفيق الوالد المتوفى، الذي غيّر توجهاته السياسية ونوعه الجنسي، وصار يُخاطب بضمير المؤنث، في محاولة للتعامل مع رماد ماضيه الشخصي.
لا يصوّر الكاتب شخصياته، رغم ميولها وتوجهاتها الإشكالية، بهيئة المضطهدين والمهمشين، أو يغرق بالتظلّم، بل على العكس، لم يلق بطل الرواية إلا اللطف والتفهّم حيثما ذهب، من الأب، الأم، زوج الأم، الحبيب، الأصدقاء اللبنانيين، بل حتى العابرين في المطارات. «الحزن في قلبه» ليس بسبب اضطهاد اجتماعي مباشر، بل قد يكون شرط وجوده ذاته، والتعامل مع هذا النمط من الحزن أدبياً ليس هيّناً على الإطلاق. لم يستسهل شومان أبداً في كتابة نصه، باللجوء إلى صيغ ومقولات جاهزة، وحتى عندما يصف المشاكل التي يتعرض لها مجتمع المثليين في لبنان، فهو يقدمه بعناصر قوته واندماجه وحضوره، دون بناء تصور رومانسي، بات مبتذلاً، عن ذوات مظلومة في مجتمع محافظ، بسبب اختلافها وتحررها.
تجاوز هلال شومان، في إنجاز يُحسب له، الحاجة إلى «التمرد»، ليصل إلى ما هو أكثر صعوبة وأهمية، أي النضج الأدبي، وقد يمكن ربط هذا بالتغيّر الذي طرأ على جمهوره المستهدف من القرّاء: الرواية، التي ربما لا تكون متوفرة ورقياً إلا في أوروبا، سيقرأها في الغالب مَن لم تعد مسائل تقرير المصير الفردي تشكّل عائقاً اجتماعياً لهم، بل صارت جزءاً من حياتهم اليومية. والكاتب عرف كيف يوظّف هذا التغيير لمصلحة كتابة أشد رحابة وهدوءاً، حتى لو كانت خارجة عن «المألوف».

تذويت العام

يمكن القول إن نص شومان «معاصر»، بكل ما في هذه المفردة من دلالات: بات من الصعب في أيامنا الحديث عما هو عام من منظور جمعي، تعددت الرؤى وتكاثرت الهويات، وغرقت محاولات التغيير بكثير من اليأس والملل واللاجدوى. ربما كانت من آخر هذه المحاولات في العالم العربي انتفاضة 17 تشرين في لبنان. اليوم يبحث كثيرون ممن شاركوا في هذه الاحتجاجات عن الخلاص الفردي، أو إذا تحدثنا بأسلوب الكاتب، يسعون إلى مدارة «حزن قلبهم»، عبر ابتكار رحلاتهم الخاصة، لنثر ما يثقلهم من رماد.
تحوّل الرواية كل القضايا الكبرى التي تعالجها إلى شأن من شؤون الذات الفردية، وهذا ليس مستجدّاً في عالم الأدب، فكثير من الأعمال العالقة بالذاكرة أنسنت الأحداث العظمى، بربطها بانطباعات وأحاسيس الأفراد، ولكن تذويت ما هو خارجي وعام لدى شومان يتخذ أبعاداً أكثر كثافة، إذ لا وجود للحرب والصراع الاجتماعي والاختلاف الثقافي إلا من خلال أسئلة وهواجس البطل، الذي كان متيسراً له أن يواصل حياته، بكل ميزاتها ومتعها، حتى لو تجاهل هذه الأسئلة، ليس هذا عيباً في الرواية على الإطلاق، بل علامة على مدى اشتباكها مع زمنها، إن صح التعبير. التقط الكاتب حساسية عصره وصاغ منها رؤياه الخاصة، وهذا أفضل ما يمكن توقعه من الأدب.

غرفة الصدى

إلا أن هذا المنظور يحمل معه بعض المخاطر، التي قد تنعكس على الإحكام الأدبي للنص. يمكن توجيه نقد للرواية، بسبب غياب ما يمكن تسميته «تعدد الأصوات» فيها، فمن الملاحظ أن معظم الشخصيات، على اختلاف ثقافاتها ومواقعها وتوجهاتها، تتحدث وتشرح أفكارها وعواطفها بأسلوب متشابه للغاية، وكأنها شخصية واحدة: البطل الذي نشأ في ألمانيا؛ ابنة الوزير اللبناني المقيمة في بيروت؛ بل حتى سائق الوزير. العالم كله يصبح غرفة صدى للذات، التي هي ذات الكاتب نفسه. بهذا المعنى فإن الرواية لا تصف فقط غرف الصدى الذاتية في عالمنا، بل غرقت هي نفسها في تكرار مقولاتها الخاصة، وإعادة الاستماع إليها بتنويعات مختلفة، ورجع الصدى المتكرر هذا قد يعطي انطباعاً بالنمطية للقارئ.
ولكنّ هذا الانطباع لا ينتقص كثيراً من تجربة القراءة ومتعتها، يبقى هنالك الكثير مما يمكن أن يثير دهشة القارئ، واندماجه في الوصف والأحداث والحوارات، ما قد يجعل «حزن في قلبي» بالفعل أحد أكثر الأعمال أهمية، فيما يمكن تسميته تجاوزاً، من منظور تاريخي غير أدبي، «أدب ما بعد الثورات العربية».

كاتب سوري

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

‫من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي أحداث الداخلة